وطن أم وثن ؟.

( لا خير في إنسان ٍ لا يبكي فراقـًا لوطن . )
إبراهيم الكوني .

عندما تشعر بأنّك مهموم حدّ الدوار .. وأن حياتك لم يعد لها أيّ اعتبار .. وأن أبناء وطنك قد تخلوا عن ذواتهم في سبيل حفنة من المال .. وأن الله وحده الذي يعلم إلى أين المفر ، وأين ستُنحر الذات .. وعندما لا تدري أي السبل أسلك ، وأي الحياة أنعم ، وأي الفرص أسنح لأن تبني ذاتك من جديد .. عندها تأكد بأن السفر بحثا عنك هو الملاذ .. فما للذين آمنوا لا يعلمون فضائل الغربة .. وما للذين خانوا الوطن لا يعلمون أن الوطن سيرجع يومًا ما لأصحابه .. وأنه لا مفر من عقاب الواحد القهار . هكذا هي حياة الناس . فالإنسان لا يرى إلا عيوب أخيه الإنسان ، ولا حاجة له بغير ذلك . وهذا ما جعل الإنسان يحقد على أخيه الإنسان .

إنه الوطن .. الوطن الذي لا يمكن له إلا أن يقول لك : لا مفر لك من وطن ! .. إنه الوطن الذي خُلق ليكون داءًا لجروحك ، وآهاتك .. وطنٌ لك لا عليك . ولكنّ الوطن الذي يحقرك ، ويقلل منك ، ولا يهتم بما في صدرك ، وليس له إلا أن يقول لك : أنت ليس لك حل سوى العيش في غريبا ، أو البحث عن موطن آخر ! .. فهذا وطن عليك لا لك .

لكنه ليس لأبنائه حيلة .. وليس لعجائزه إلا أن يقبعوا في المساجد ليرفعوا أيديهم تضرعًا إلى بارئهم ، وبحثًا عن مفر تنعم به الأجيال بعدهم ، والتي سوف تقبع في ذات المكان .. ربما ! .. لكنّه الوطن يا قوم .. وطن يجب أن يكون لك لا عليك .. وطن تحبه ، ليبادلك الحب .. هذا لو كنت حقيقة تبحث عن حب .. إنك لا تبحث عنه ، فهو في دمك ، ورثته من أمك ، وقد قرأته في عيني أبيك . لكنه وبالرغم من ذلك قد انقلب الوطن ولم يعد لك ، بل أصبح في ليلة مضلمة عليك . وتلك قصّة طويلة ، لا يختلف على طولها إثنان .

لكن ، ولنأتي للموضوع من الزاوية التي لا نريدها نحن ! مثلما يفعل الإنسان عندما يحاول التفكير فيما يشوبه . نحن لم نختر الوطن ، والوطن لم يخترنا .. فكيف لنا أن نبكي فراقه ، وكيف لنا أن نتذمر من بصقاته ؟ .. إنه القدر يا رفاق ، القدر هو الذي ربطنا بالوطن ، وربط الوطن بنا ، مثلما جعلنا من أبوينا ، وجعل أبوينا لنا .

فنحن لم نختر أن نكون لأبوينا ، كما أننا لم نختر أن نكون لوطننا .. مثلا: إن خيّروني أن أختار وطن ، لاخترت وطنًا لا يسع أحدًا غيري ، وعائلتي . ولو أنّهم خيّروني أن اختار أبواي ، لاخترت أبويين آخرين غير الذان أنا من صلبهما .. ولكنّ ذلك ليس سوى مجرد تخمين ، وأحلام لا أظن أنني سأكون سعيدًا لتحققها .. فالقدر هو الذي لم يجعلها تتحقق .. والقدر هو الذي جعلني أحلم ..وجعلني أجمع هذه الحروف التي أبت إلا أن تخرج . قدري أنني ولدت لأكون غريبا .. لأعيش غريبا .. لأمضي والوطن يعتمر قلبي .. وطن أبحث عنه في داخلي .. وطن يجعلني أبكي لفراقه ! .

عندما كنا صغار ، نلهوا ، ونلعب في أزقة مدينتنا الحزينة .. كنا غالبا ما نسمع أن حب الوطن من الإيمان .. ولكننا كنا لا ندري ما علاقة الوطن بالإيمان .. الآن وبعدما مرت عقود على هذه الذكريات ، أدركت حقيقة هذه الكلمة .. أدركت بأن حب الوطن إيمان منك بقلبك ، وإقرار منك بعقلك ، بأنه إيمان بوجودك كإنسان .. إيمانك بأن الوطن لا يُبنى لك ، وإنما أنت الذي تبنيه .. وتحب من عاشوا ، ويعيشون ، ومن سوف يعيش فيه .. لا يهم كيف .. لا يهم إن كنت قد عشت فيه بجثتك وقلبك معا .. أو أن جثتك تعبث في مكان آخر على هذه الأرض ، وقلبك لايزال يعيش فيه .

دعوني أحكي لكم هذه القصّة :

كان قبل عدة شهور ، أو ربما سنوات ، فرح مثل كل الأفراح .. عرس مثل كل الأعراس .. الخيام منصوبة .. والكراسي مرصوصة .. والشاي والحلويات ، والقهوة والمكسرات ، والأكل ، وكل ما لذ وطاب .. وكان الفرح لا يخلوا من التباريك ، ومن الهدايا ، والمعازيم .. العروس وأهلها فرحين .. والعريس لم يطُل بعد .. فبدأت الوشوشات تتسرب مثل تسرب الرائحة الكريهة في يوم صيفي هادئ .. صار الرجال يسألون عن العريس .. من أين أصله ، ومن أي الأشجار هو .. وأي رحيق يشتم .. يسألون بعضهم البعض عن عريس غائب ، وسبب غيابه .. وبعضم سافرت به عقدته إلى التشكيك في وجود عريس .. وبعد مد وجزر كاد أن يؤدي بسمعة والد العروس ، دخل العريس إلى خيمة الرجال ، دخل هو وأصدقائه المقربون .. وكاد المعازيم أن يقطعوا ألسنتهم بسكين من نار .. هبّ والد العريس إليه ليرحب به ، وليعرفه على المعازيم .. وصار الرجال يتجاذبون معه أطراف الحديث .. إلا أن صاحبنا العريس قد احتاج في كثير من المرات لأحد مرافقيه لكي يترجم له ما يقال .. وعندما علم المعازيم بأن العريس لا يتقن لهجتهم بدأت الروائح الكريهة تأخذ مفعولها بقوة .. ومنهم من علت طلقاته .. بدأ أحدهم يشكك في انتماء العريس إلى هذه البلاد ، بينما تولّى الآخر بوصفه بالمتكبر الذي لا يعي فعلته الشنعاء التي يفعل .. ومنهم من ظنّ بأن والد العروس قد خالف المواريث وزوّج ابنته إلى غريب ، بعيد ، خواجة ! .. وأخذت نوبة صامتة تعج بالمكان ، لكن أحد الضيوف ، أظنه أشجعهم ، لم يبقَ على حيرته وانفجر في وجه السلطان ليسأله ( من وين انت ؟ ) .. أجاب العريس بكل عفوية : ( أنا من هذه البلاد ! ) .. صاح الآخر بتهكم : ( ياودي ما أظن ! ) .. احمّر وجه عم العريس ، ولكنه تمالك نفسه ، وعرّف العريس على المعازيم بقوله : ( هذا العريس يا جماعة الخير .. ولد أختي اللي عايشة في الخارج ! ) .. حينها لم يبق للرجال إلا احمرار الوجه ، واستنكار ، وبضع تمتمات وتساؤلات عن فقدان العريس لهويته ! .

إنه الوطن .. وطنٌ يعيش فيك ، بالرغم من بعدك عنه .. وطن يعيش فيك بكل حذافره ، لا يهم أية لغة تتحدث ، وأي بشرة تغطيك .. الأهم من كل ذلك أنك تحس بانتمائك له بالرغم من بعدك عنه .. الأهم أنك مهما تدور ، وتدور ، وتدور فسوف ترجع له ! .. ولو بلكنة مستوردة ! .
[center][left]

يسعدني أن اكون أول من يرد عليج ...
عاشت إيدج حياتي على هذا الموضوع الروعة

اشكرك جدا على الموضوع الجميل واكرما لصاحب الموضوع الرائع اهداء اغنية حازم جابر طبع بينة الى عاشقة الوهم الوردة

شكرا لمروركم اسعدني جدا
اولا : اختي العزيزة سجينة الاحلام
وثانيا: العضو سفير الاوهام
وشكرا لك على الإهداء لكن اعذرني لا اسمع اغاني

شكرا لكِ اختي على الموضوع